فصل: ذكر استيلاء وهسوذان على بني أخيه وقتلهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.سنة سبع وأربعين وثلاثمائة:

.ذكر استيلاء معز الدولة على الموصل وعوده عنها:

قد ذكرنا صلح معز الدولة مع ناصر الدولة على ألفي ألف درهم كل سنة، فلما كان هذه السنة أخر ناصر الدولة حمل المال، فتجهز معز الدولة إلى الموصل وسار نحوها، منتصف جمادى الأولى، ومعه وزيره المهلبي، ففارقها ناصر الدولة إلى نصيبين، واستولى معز الدولة على الموصل.
فكان من عادة ناصر الدولة إذا قصده أحدٌ سار عن الموصل واستصحب معه جميع الكتاب، والوكلاء، ومن يعرف أبواب المال، ومنافع السلطان، وربما جعلهم في قلاعه كقلعة كواشى، والزعفران، وغيرهما، وكانت قلعة كواشى تسمى ذلك الوقت قلعة أردمشت، وكان ناصر الدولة يأمر العرب بالإغارة على العلافة ومن يحمل الميرة، فكان الذي يقصد بلاد ناصر الدولة يبقى محصوراً مضيفاً عليه.
فلما قصده معز الدولة هذه المرة فعل ذلك به، فضاقت الأقوات على معز الدولة وعسكره، وبلغه أن بنصيبين من الغلات السلطانية شيئاً كثيراً، فسار عن الموصل نحوها، واستخلف بالموصل سبكتكين الحاجب الكبير، فلما توسط الطريق بلغه أن أولاد ناصر الدولة أبا المرجى وهبة الله بسنجار في عسكر، فسير إليهم عسكراً، فلم يشعر أولاد ناصر الدولة بالعسكر إلا وهو معهم، فجعلوا عن أخذ أثقالهم، فركبوا دوابهم وانهزموا ونهب عسكر معز الدولة ما تركوه، ونزلوا في خيامهم، فعاد أولاد ناصر الدولة إليهم وهم غارون، فوضعوا السيف فيهم، فقتلوا، وأسروا، وأقاموا بسنجار.
وسار معز الدولة إلى نصيبين، ففارقها ناصر الدولة إلى ميافارقين، ففارقه أصحابه وعادوا إلى معز الدولة مستأمنين، فلما رأى ناصر الدولة ذلك سار إلى أخيه سيف الدولة بحلب، فلما وصل خرج إليه ولقيه، وبالغ في إكرامه، وخدمه بنفسه، حتى إنه نزع خفه بيديه.
وكان أصحاب ناصر الدولة في حصونه ببلد الموصل، والجزيرة، يغيرون على أصحاب معز الدولة بالبلد، فيقتلون فيهم، ويأسرون منهم، ويقطعون الميرة عنهم.
ثم إن سيف الدولة راسل معز الدولة في الصلح، وترددت الرسل في ذلك، فامتنع معز الدولة في تضمين ناصر الدولة لخلفه معه مرة بعد أخرى، فضمن سيف الدولة البلاد منه بألفي ألف درهم وتسع مائة ألف درهم، وإطلاق من أسر من أصحابه بسنجار وغيرها، وكان ذلك في المحرم سنة ثمان وأربعين.
وإنما أجاب معز الدولة إلى الصلح بعد تمكنه من البلاد لأنه ضاقت عليه الأموال، وتقاعد الناس في حمل الحراج، واحتجوا بأنهم لا يصلون إلى غلاتهم، وطلبوا الحماية من العرب أصحاب ناصر الدولة، فاضطر معز الدولة إلى الانحدار، وأنف من ذلك، فلما وردت عليه رسالة سيف الدولة استراح إليها، وأجابه إلى ما طلبه من الصلح، ثم انحدر إلى بغداد.

.ذكر مسير جيوش المعز العلوي إلى أقاصي المغرب:

وفيها عظم أمر أبي الحسن جوهر عند المعز بإفريقية، وعلا محله، وصار في رتبة الوزارة، فسيره المعز في صفر في جيش كثيف منهم زيري بن مناد الصنهاجي وغيره، وأمره بالمسير إلى أقاصي المغرب، فسار إلى تاهرت، فحضره عنده يعلى بن محمد الزناتي، فأكرمه وأحسن إليه، ثم خالف على جوهر، فقبض عليه، وثار أصحابه، فقاتلهم جوهر، فانهزموا وتبعهم جوهر إلى مدينة أفكان، فدخلها بالسيف، ونهبها، ونهب قصور يعلى، وأخذ ولده، وكان صبياً، وأمر بهدم أفكان وإحراقها بالنار، وكان ذلك في جمادى الآخرة.
ثم سار منها إلى فاس، وبها صاحبها أحمد بن بكر، فأغلق أبوابها، فنازلها جوهر، وقاتلها مدة، فلم يقدر عليها، وأتته هدايا الأمراء الفاطميين بأقاصي السوس، وأشار على جوهر وأصحابه بالرحيل إلى سجلماسة، وكان صاحبها محمد بن واسول قد تلقب بالشاكر لله، ويخاطب بأمير المؤمنين، وضرب السكة باسمه، وهو على ذلك ست عشرة سنة، فلما سمع بجوهر هرب، ثم أراد الرجوع إلى سجلماسة، فلقيه أقوام، فأخذوه أسيراً، وحملوه إلى جوهر.
ومضى جوهر حتى انتهى إلى البحر المحيط، فأمر أن يصطاد له من سمكه، فاصطادوا له، فجعله في قلال الماء وحمله إلى المعز، وسلك تلك البلاد جميعها فافتتحها وعاد إلى فاس، فقاتلها مدة طويلة، فقام زيري بن مناد فاختار من قومه رجالاً لهم شجاعة، وأمرهم أن يأخذوا السلاليم، وقصدوا البلد، فصعدوا إلى السور الأدنى في السلاليم وأهل فاس آمنون، فلما صعدوا على السور قتلوا من عليه، ونزلوا إلى السور الثاني، وفتحوا الأبواب، وأشعلوا المشاعل، وضربوا الطبول، وكانت الإمارة بين زيري وجوهر، فلما سمعها جوهر ركب في العساكر فدخل فاساً، فاستخفى صاحبها، وأخذ بعد يومين، وجعل مع صاحب سجلماسة، وكان فتحها في رمضان سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، فحملهما في قفصين إلى المعز بالمهدية، وأعطى تاهرت لزيري ابن مناد.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة كان ببلاد الجبل وباء عظيم مات فيه أكثر أهل البلاد، وكان أكثر من مات فيه النساء، والصبيان، وتعذر على الناس عيادة المرضى، وشهود الجنائز لكثرتها.
وفيها انخسف القمر جميعه.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد البوشنجي الصوفي بنيسابور، وهو أحد المشهورين منهم؛ وأبو الحسن محمد بن الحسن بن عبدالله بن أبي الشوارب، قاضي بغداد، وكان مولده سنة اثنتين وتسعين ومائتين؛ وأبو علي الحسين بن علي بن يزيد الحافظ النيسابوري في جمادى الأولى.
وفيها توفي عبدالله بن جعفر بن درستويه أبو محمد الفارسي النحوي في صفر وكان مولده سنة ثمان وخمسين ومائتين، وأخذ النحو عن المبرد. ثم دخلت:

.سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة:

في هذه السنة، في المحرم، تم الصلح بين سيف الدولة ومعز الدولة، وعاد معز الدولة إلى العراق، ورجع ناصر الدولة إلى الموصل.
وفيها أنفذ الخليفة لواء وخلعة لأبي علي بن إلياس صاحب كرمان.
وفيها مات أبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي، كاتب معز الدولة، وكتب بعده أبو بكر بن أبي سعيد.
وفيها كانت حرب شديدة بين علي بن كامة، وهو ابن أخت ركن الدولة، وبين بيستون بن وشمكير، فانهزم بيستون.
وفيها غرق من حجاج الموصل في الماء بضعة عشر زورقاً.
وفيها غزت الروم طرسوس والرها، فقتلوا، وسبوا، وغنموا، وعادوا سالمين.
وفيها سار مؤيد الدولة بن ركن الدولة من الري إلى بغداد، فتزوج بابنة عمه معز الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثم عاد إلى أصبهان.
وفيها، في جمادى الأولى، وقعت حرب شديدة بين عامة بغداد، وقتل فيها جماعة، واحترق من البلد كثير.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن، الفقيه الحنبلي المعروف بالنجاد، وكان عمره خمساً وتسعين سنة؛ وجعفر بن محمد بن نصير الخلدي الصوفي، وهو من أصحاب الجنيد، فروى الحديث وأكثر.
وفيها انقطعت الأمطار، وغلت الأسعار في كثير من البلاد، فخرج الناس يستسقون في كانون الثاني في البلاد، ومنها بغداد، فما سقوا، فلما كان في آذار ظهر جراد عظيم، فأكل ما كان قد نبت من الخضراوات وغيرها، فاشتد الأمر على الناس. ثم دخلت:

.سنة تسع وأربعين وثلاثمائة:

.ذكر ظهور المستجير بالله:

في هذه السنة ظهر بأذربيجان وجل من أولاد عيسى بن المكتفي بالله، وتلقب بالمستجير بالله، وبايع للرضا من آل محمد، ولبس الصوف وأظهر العدل، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، وكثر أتباعه.
وكان السبب في ظهوره أن جستان بن المرزبان، صاحب أذربيجان، ترك سيرة والده في سياسة الجيش، واشتغل باللعب، ومشاورة النساء، وكان جستان بن شرمزن بأرمية متحصناً بها، وكان وهسوذان بالطرم يضرب بين أولاد أخيه ليختلفوا.
ثم إن جستان بن المرزبان قبض على وزيره النعيمي، وكان بينه وبين وزير جستان بن شرمزن مصاهرة، وهو أبو الحسن عبيدالله بن محمد بن حمدويه، فاستوحش أبو الحسن لقبض النعيمي، فحمل صاحبه ابن شرمزن على مكاتبة إبراهيم بن المرزبان، وكان بأرمينية، فكاتبه، وأطمعه في املك، فسار إليه، فقصدوا مراغة واستولوا عليها، فلما علم جستان بن المرزبان بذلك راسل ابن شرمزن ووزيره أبا الحسن، فأصلحهما، وضمن لهما إطلاق النعيمي، فعاد عن نصرة إبراهيم، وظهر له ولأخيه نفاق ابن شرمزن، فتراسلا واتفقا عليه.
ثم إن النعيمي هرب من حبس جستان بن المرزبان، وسار إلى موقان، وكاتب ابن عيسى بن المكتفي بالله، وأطمعه في الخلافة، وأن يجمع له الرجال، ويملك له أذربيجان، فإذا قوي قصد العراق فسار إليه في نحو ثلاثمائة رجل، وأتاه جستان بن شرمزن فقوي به، وبايعه الناس، واستفحل أمره، فسار إليهم جستان وإبراهيم ابنا المرزبان قاصدين قتالهم، فلما التقوا انهزم أصحاب المستجير، وأخذ أسيراً فعدم فقيل إنه قتل وقيل بل مات.

.ذكر استيلاء وهسوذان على بني أخيه وقتلهم:

وأما وهسوذان فإنه لما رأى اختلاف أولاد أخيه، وأن كل واحد منهم قد انطوى على غش صاحبه، راسل إبراهيم، بعد وقعة المستجير، واستزاره، فزاره، فأكرمه عمه، ووصله بما ملأ عينه، وكاتب ناصراً ولد أخيه أيضاً، واستغواه، ففارق أخاه جستان وصار إلى موقان، فوجده الجند طريقاً إلى تحصيل الأموال، ففارق أكثرهم جستان وصاروا إلى أخيه ناصر، فقوي بهم على أخيه جستان، واستولى على أردبيل.
ثم إن الأجناد طالبوا ناصراً بالأموال، فعجز عن ذلك، وقعد عمه وهسوذان عن نصرته، فعلم أنه كان يغويه، فراسل أخاه جستان، وتصالحا واجتمعا، وهما في غاية ما يكون من قلة الأموال واضطراب الأمور، وتغلب أصحاب الأطراف على ما بأيديهم، فاضطر جستان وناصر ابنا المرزبان إلى المسير إلى عمهما وهسوذان مع والدتهما، فراسلاه في ذلك، وأخذا عليه العهود، وساروا إليه، فلما حصلوا عنده نكث، وغدر بهم، وقبض عليهم، وهم جستان وناصر ووالدتهما، واستولى على العسكر، وعقد الإمارة لابنه إسماعيل، وسلم إليه أكثر قلاعه، وأخرج الأموال وأرضى الجند.
وكان إبراهيم بن المرزبان قد سار إلى أرمينية، فتأهب لمنازعة إسماعيل، واستنقاذ أخويه من حبس عمهما وهسوذان، فلما علم وهسوذان ذلك ورأى اجتماع الناس عليه بادر فقتل جستان وناصراً ابني أخيه وأمهما، وكاتب جستان بن شرمزن، وطلب إليه أن يقصد إبراهيم، وأمده بالجند والمال، ففعل ذلك، واضطر إبراهيم إلى الهرب والعود إلى أرمينية، واستولى ابن شرمزن على عسكره وعلى مدينة مراغة مع أرمية.

.ذكر غزو سيف الدولة بلاد الروم:

في هذه السنة غزا سيف الدولة بلاد الروم في جميع كثير، فأثر فيها آثاراً كثيرة، وأحرق، وفتح عدة حصون، وأخذ من السبي والغنائم والأسرى شيئاً كثيراً، وبلغ إلى خرشنة، ثم إن الروم أخذوا عليه المضايق، فلما أراد الرجوع قال له من معه من أهل طرسوس: إن الروم قد ملكوا الدرب خلف ظهرك، فلا تقدر على العود منه، والرأي أن ترجع معنا؛ فلم يقبل منهم، وكان معجباً برأيه يحب أن يستبد ولا يشاور أحداً لئلا يقال إنه أصاب برأي غيره، وعاد في الدرب الذي دخل منه، فظهر الروم عليه واستردوا ما كان معه من الغنائم، وأخذوا أثقاله، ووضعوا السف في أصحابه فأتوا عليهم قتلاً وأسراً، وتخلص هو في ثلاثمائة رجل بعد جهد ومشقة وهذا من سوء رأي كل من يجهل آراء الناس العقلاء، والله أعلم بالصواب.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض عبد الملك بن نوح، صاحب خراسان، وما وراء النهر، على رجل من أكابر قواده وأمرائه يسمى نجتكين، وقتله، فاضطربت خراسان.
وفيها استأمن أبو الفتح، المعروف بابن العريان، أخو عمران بن شاهين، صاحب البطيحة، إلى معز الدولة بأهله وماله، وكان خاف أخاه، فأكرمه معز الدولة وأحسن إليه.
وفيها مات أبو القاسم عبدالله بن أي عبدالله البريدي.
وفيها أسلم من الأتراك نحو مائتي ألف خركاة.
وفيها انصرف حجاج مصر من الحج، فنزلوا وادياً وباتوا فيه، فأتاهم السيل ليلاً فأخذهم جميعهم مع أثقالهم وجمالهم فألقاهم في البحر.
وفيها سار ركن الدولة من الري إلى جرجان، فلقيه الحسن بن الفيرزان، وابن عبد الرزاق، فوصلهما بمال جليل.
وفيها كان بالبلاد غلاء شديد، وكان أكثره بالموصل فبلغ الكر من الحنطة ألفاً ومائتي درهم، والكر من الشعير ثمانمائة درهم، وهر أهلها إلى الشام والعراق.
وفيها، خامس شعبان، كان ببغداد فتنة عظيمة بين العامة، وتعطلت الجمعة من الغد لاتصال الفتنة في الجانبين، سوى مسجد براثا فإن الجمعة تمت فيه، وقبض على جماعة من بني هاشم اتهموا أنهم سبب الفتنة، ثم أطلقوا من الغد.
وفيها توفي أبو الخي الأقطع التيناتي، أو قريباً من هذه السنة، وكان عمره مائة وعشرين سنة، وله كرامات مشهورة مسطورة.
التيناتي بالتاء المكسورة المعجمة باثنتين من فوق، ثم الياء المعجمة باثنتين من تحت، ثم بالنون والألف ثم بالتاء المثناة من فوق أيضاً.
وفيها مات أو إسحاق بن ثوابة كاتب الخليفة ومعز الدولة، وقلد ديوان الرسائل بعده إبراهيم بن هلال الصابي.
وفيها، في آخرها، مات أنوجور بن الإخشيد صاب مصر، وتقلد أخوه علي مكانه. ثم دخلت:

.سنة خمسين وثلاثمائة:

.ذكر بناء معز الدولة دوره ببغداد:

في هذه السنة، في المحرم، مرض معز الدولة، وامتنع عليه البول، ثم كان يبول بعد جهد ومشقة دماً، وتبعه البول، والحصى، والرمل، فاشتد جزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبين والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما، ووصاهما بابنه بختيار، وسلم جميع ماله إليه.
ثم إنه عوفي، فعزم على المسير إلى الأهواز لأنه اعتقد أن ما اعتاده من الأمراض إنما هو بسبب مقامه ببغداد، وظن أنه إن عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه من الصحة، ونسي الكبر والشباب، فلما انحدر إلى كلواذى ليتوجه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمقام، وأن يفكر في هذه الحركة ولا يعجل، فأقام بها، ولم يؤثر أحد من أصحابه انتقاله لمفارقة أوطانهم وأسفاً على بغداد كيف تخرب بانتقال دار الملك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأن يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرق هواء، وأصفى ماء، ففعل، وشرع في بناء داره في موضع المسناة المعزية، فكان مبلغ ما خرج عليها إلى أن مات ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسبب ذلك إلى مصادره جماعة من أصحابه.

.ذكر موت الأمير عبد الملك بن نوح:

في هذه السنة سقط الفرس تحت الأمير عبد الملك بن نوح، صاحب خراسان، فوقع إلى الأرض، فمات من سقطته، وافتتنت خراسان بعده، وولي بعده أخوه منصور بن نوح، وكان موته يوم الخميس حادي عشر شوال.

.ذكر وفاة عبد الرحمن الناصر صاحب الأندلس وولاية ابنه الحاكم:

في هذه السنة توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبدالله صاحب الأندلس، الملقب بالناصر لدين الله، في رمضان، فكانت إمارته خمسين سنة وستة أشهر، وكان عمره ثلاثاً وسبعين سنة، وكان أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين، كان ركاب سرجه يقارب الشبر، وكان طويل الظهر، وهو أول من تلقب من الأمويين بألقاب الخلفاء، وتسمى بأمير المؤمنين، وخلف أحد عشر ولداً ذكراً، وكان من تقدمه من آبائه يخاطبون ويخطب لهم بالأمير وأبناء الخلائف.
وبقي هو كذلك إلى أن مضى من إمارته سبع وعشرون سنة، فلما بلغه ضعف الخلفاء بالعراق وظهور العلويين بإفريقية، ومخاطبتهم بأمير المؤمنين، أمر حينئذ أن يلقب الناصر لدين الله، ويخطب له بأمير المؤمنين؛ ويقول أهل الأندلس إنه أول خليفة ولي بعد جده، وكانت أمه أم ولد اسمها مزنة، ولم يبلغ أحد ممن تلقب بأمير المؤمنين مدته في الخلافة غير المستنصر العلوي صاحب مصر، فإن خلافته كانت ستين سنة.
ولما مات ولي الأمر بعده ابنه الحاكم بن عبد الرحمن، وتلقب بالمستنصر، وأمه أم ولد تسمى مرجانة، وخلف الناصر عدة أولاد منهم عبدالله، وكان شافعي المذهب عالماً بالشعر والأخبار وغيرهما، وكان ناسكاً.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة سار قفل عظيم من إنطاكية إلى طرسوس ومعهم صاحب إنطاكية، فخرج عليهم كمين للروم فأخذ من كان فيها من المسلمين، وقتل كثيراً منهم، وأفلت صاحب إنطاكية وبه جراحات.
وفيها، في رمضان، دخل نجا غلام سيف الدولة بلاد الروم من ناحية ميافارقين غازياً، وإنه في رمضان غنم ما قيمته قيمة عظيمة، وسبى، وأسر، وخرج سالماً.
وفيها مات القاضي أبو السائب عتبة بن عبدالله، وقبضت أملاكه، وتولى قضاء القضاة أبو العباس بن عبدالله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضمن أن يؤدي كل سنة مائتي ألف درهم، وهو أول من ضمن القضاء، وكان ذلك أيام معز الدولة، ولم يسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأن لا يحضر الموكب لما ارتكبه من ضمان القضاء، ثم ضمنت بعده الحسبة والشرطة ببغداد.
وفيها وصل أبو القاسم أخو عمران بن شاهين إلى معز الدولة مستأمناً.
وفيها توفي القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، وهو من أصحاب الطبري، وكان يروي تاريخه. ثم دخلت:

.سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة:

.ذكر استيلاء الروم على عين زربة:

في هذه السنة، في المحرم، نزل الروم مع الدمستق على عين زربة، وهي في سفح جبل عظيم، وهو مشرف عليها، وهم في جمع عظيم، فأنفذ بعض عسكره فصعدوا الجبل فملكوه، فلما رأى ذلك أهلها، وأن الدمستق قد ضيق عليهم ومعه الدبابات، وقد وصل إلى السور، وشرع في النقب، طلبوا الأمان فأمنهم الدمستق، وفتحوا له باب المدينة، فدخلها، فرأى أصحابه الذين في الجبل قد نزلوا إلى المدينة، فندم على إجابتهم إلى الأمان.
ونادى في البلد، أول الليل، بأن يخرج جميع أهله إلى المسجد الجامع، ومن تأخر في منزله قتل، فخرج من أمكنه الخروج فلما أصبح أنفذ رجالته في المدينة، وكانوا ستين ألفاً، وأمرهم بقتل من وجدوه في منزله، فقتلوا خلقاً كثيراً من الرجال والنساء والصبيان، وأمر بجمع ما في البلد من السلاح، فجمع، فكان شيئاً كثيراً.
وأمر من في المسجد بأن يخرجوا من البلد حيث شاؤوا، يومهم ذلك، ومن أمسى قتلن فخرجوا مزدحمين، فمات بالزحمة جماعة، ومروا على وجوههم لا يدرون أين يتوجهون، فماتوا في الطرقات، وقتل الروم من وجدوه بالمدينة آخر النهار، وأخذوا كل ما خلفه الناس من أموالهم وأمتعتهم، وهدموا سوري المدينة.
وأقام الدمستق في بلد الإسلام أحداً وعشرين يوماً، وفتح حول عين زربة أربعة وخمسين حصناً للمسلمين بعضها بالسيف وبعضها بالأمان، وإن حصناً من تلك الحصون التي فتحت بالأمان أمر أهله بالخروج منه فخرجوا، فتعرض أحد الأرمن لبعض حرم المسلمين، فلحق المسلمين غيرة عظيمة، فجردوا سيوفهم، فاغتاظ الدمستق لذلك فأمر بقتل جميع المسلمين وكانوا أربعمائة رجل، وقتل النساء والصبيان، ولم يترك إلا من يصلح أن يسترق.
فلما أدركه الصوم انصرف على أن يعود بعد العيد، وخلف جيشه بقيسارية، وكان ابن الزيات، صاحب طرسوس، قد خرج في أربعة آلاف رجل من الطرسوسيين، فأوقع بهم الدمستق، فقتل أكثرهم، وقتل أخاً لابن الزيات، فعاد إلى طرسوس، وكان قد قطع الخطبة لسيف الدولة بن حمدان، فلما أصابهم هذا الوهن أعاد أهل البلد الخطبة لسيف الدولة وراسلوه بذلك، فلما علم ابن الزيات حقيقة الأمر صعد إلى روشن في داره فألقى نفسه منه إلى نهر تحته. فغرق وراسل أهل بغراس الدمستق، وبذلوا له مائة ألف درهم، فأقرهم وترك معارضتهم.

.ذكر استيلاء الروم على مدينة حلب وعودهم عنها بغير سبب:

في هذه السنة استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها.
وكان سبب ذلك أن الدمستق سار إلى حلب، ولم يشعر به المسلمون، لأنه كان قد خلف عسكره بقيسارية ودخل بلادهم كما ذكرناه، فلما قضى صوم النصارى خرج إلى عسكره من البلاد جريدة، ولم يعلم به أحد، وسار هم عند وصوله، فسبق خبره، وكبس مدينة حلب، ولم يعلم به سيف الدولة ابن حمدان ولا غيره.
فلما بلغها وعلم سيف الدولة الخبر أعجله الأمر عن الجمع والاحتشاد، فخرج إليه فيمن معه، فقاتله فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه، فقتل أكثرهم، ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد، قتلوا جميعهم، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير، وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب، تسمى الدارين، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة من الدراهم، وأخذ له ألفاً وأربعمائة بغل، ومن خزائن السلاح ما لا يحصى، فأخذ الجميع، وخرب الدار، وملك الحاضر، وحصر المدينة، فقاتله أهلها.
وهدم الروم في السور ثلمة، فقاتلهم أهل حلب عليها، فقتل من الروم كثير، ودفعوهم عنها، فلما جنهم الليل عمروها، فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل جوشن.
ثم إن رجالة الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس، وخانات التجار لينهبوها، فلحق الناس أموالهم ليمنعوها، فخلا السور منهم، فلما رأى الروم السور خالياً من الناس قصدوه وقربوا منه، فلم يمنعهم أحد، فصعدوا إلى أعلاه فرأوا الفتنة قائمة في البلد بين أهله، فنزلوا وفتحوا الأبواب، ودخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا، ولم يرفعوا السيف إلى أن تعبوا وضجروا.
وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسرى، فتخلصوا، وأخذوا السلاح، وقتلوا الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرةً، فلما لم يبق مع الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي، وأحرق المساجد، وكان قد بذل لأهل البلد الأمان على أن يسلموا إليه ثلاثة آلاف صبي وصبية ومالاً ذكره، وينصرف عنهم، فلم يجيبوه إلى ذلك، فملكهم كما ذكرنا، وكان عدة عسكره مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألف رجل بالجواشن، وثلاثون ألفاً للهدم وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحسك الحديد.
ولما دخل الروم البلد قصد الناس القلعة، فمن دخلها نجا بحشاشة نفسه، وأقام الدمستق تسعة أيام، وأراد الانصراف عن البلد بما غنم، فقال له ابن أخت الملك، وكان معه: هذا البلد قد حصل في أيدينا، وليس من يدفعنا عنه، فلأي سبب ننصرف عنه؟ فقال الدمستق: قد بلغنا ما لم يكن الملك يؤمله، وغنمنا، وقتلنا، وخربنا، وأحرقنا، وخلصنا أسراناً، وبلغنا ما لم يسمع بمثله؛ فتراجعا الكلام إلى أن قال له الدمستق: انزل على القلعة فحاصرها، فإنني مقيم بعسكري على باب المدينة؛ فتقدم ابن أخت الملك إلى القلعة، ومعه سيف وترس، وتبعه الروم، فلما قرب من باب القلعة ألقي عليه حجر فسقط، ورمي بخشب فقتل، فأخذه أصحابه وعادوا إلى الدمستق، فلما رآه قتيلاً قتل من معه من أسرى المسلمين، وكانوا ألفاً ومائتي رجل، وعاد إلى بلاده، ولم يعرض لسواد حلب، وأمر أهله بالزراعة والعمارة ليعود إليهم بزعمه.